أشار المحامي والناشط الحقوقي جبرائيل مصطفى، في لقاء مع وكالة فرات للأنباء (ANF)، إلى جرائم الاحتلال التركي ومرتزقته في منطقة عفرين، موضحاً أن الهجوم الوحشي نُفّذ باستخدام مختلف أنواع الأسلحة المتطورة والطائرات الحربية، ما أدى إلى تدمير المواقع الأثرية والبنية التحتية للمنطقة، وأن العدوان لم يتوقف عند هذا الحد، بل استمر عبر قصف عشوائي ومدمر طال كافة القرى والنواحي الحدودية لعفرين، في محاولة لفرض الهيمنة التركية والسيطرة الكاملة على المنطقة.
ووفقاً للمحامي جبرائيل مصطفى، شنّت القوات التركية هجوماً برياً ضخماً بمشاركة أكثر من 25 ألف مرتزق، وارتكبت مجازر بحق المدنيين، بما في ذلك استخدام الغازات الكيماوية في قرية أرنده التابعة لناحية شيه، هذا الهجوم الوحشي تزامن مع تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي زعم فيها أن عفرين ستكون تحت السيطرة التركية خلال أسبوع، إلا أن مقاومة أهالي عفرين كانت أقوى من توقعاتهم.
وبيّن المحامي مصطفى، أنه على الرغم من الإمكانيات المحدودة والأسلحة المتوسطة التي كانت بحوزة وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة، صمدت هذه القوات جنباً إلى جنب مع الشعب العفريني في مقاومة بطولية استمرت 58 يوماً، تميزت بتلاحم قوي بين جميع الأطراف المعنية، حيث كان هذا التلاحم دليلاً على إرادة الحياة والصمود لدى الشعب العفريني، الذي دافع عن أرضه ومبادئه بكل ما أوتي من قوة.
وأضاف أن عفرين لم تكن مجرد مدينة، بل كانت نقطة انطلاق لتشكيلات وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة، وقد شهدت المدينة أولى خطوات التعليم باللغات الأم، وكانت أول مدينة تُؤسس فيها جامعة، علاوة على ذلك، تمكن الشعب العفريني من تنظيم نفسه في المؤسسات المدنية وتشكيل قوات الحماية الذاتية، مما جعلها نقطة محورية في مشروع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.
الموقع الجغرافي وأهداف الاحتلال التركي
وحول أهمية موقع عفري الاستراتيجي والأهداف التركية، قال المحامي جبرائيل مصطفى: "تتميز مدينة عفرين بموقعها الجغرافي الاستراتيجي، حيث تطل على لواء إسكندرون والبحر الأبيض المتوسط، مما يجعلها نقطة ارتكاز هامة في المخطط التركي لتوسيع حدود الدولة وفقاً لما يسمى "الميثاق الملي"، الذي يهدف إلى ضم مناطق ذات غالبية سنية إلى الأراضي التركية، فمنذ توقيع معاهدة لوزان عام 1923، كانت تركيا تسعى لتحقيق هذا الهدف، وقد استغلت الأوضاع في سوريا لتنفيذ مشاريعها الاحتلالية، مستهدفةً المناطق ذات الغالبية السنية مثل جرابلس وإعزاز والباب، والتي رحب سكانها بالقوات التركية.
وأردف قائلاً: "ولكن في مدينة عفرين، كان الوضع مختلفاً، حيث قاوم الشعب العفريني كافة المحاولات التركية للسيطرة على المدينة، بدءاً من عام 2011 وحتى الهجوم المباشر في 2018، حيث كانت تركيا تحاول تكرار تجربتها في المناطق الأخرى، من خلال تحريك أدواتها المحلية مثل ما يُسمى "المجلس الوطني الكردي" الذي شكل ميليشيات عسكرية للتعاون معها، ورغم تلك المحاولات، صمدت عفرين في وجه الاحتلال حتى آخر لحظة.
"التهجير والجرائم التركية"
وعن المجازر التي ارتكبتها تركيا خلال توغلها في عفرين واحتلالها، قال المحامي والناشط الحقوقي جبرائيل مصطفى: "خلال الهجوم على عفرين، ارتكبت تركيا العديد من المجازر، أبرزها مجزرة "محمودية" التي استهدفت المدنيين بشكل ممنهج، فضلاً عن استخدام تركيا أساليب إبادة جماعية شملت القصف العنيف والغازات الكيماوية، وكان الهدف من هذه الجرائم زرع الخوف وتهجير المدنيين، ومع احتلال المدينة، قامت تركيا بتغيير التركيبة السكانية والتغيير الديمغرافي في المنطقة بشكل غير مسبوق، حيث كانت نسبة الكرد في عفرين قبل الاحتلال تتجاوز 98%، لكن بعد الهجوم والتهجير القسري، تراجعت هذه النسبة إلى 25% فقط".
"صمود مستمر ومقاومة حياة"
وتابع: "بعد الاحتلال، وجد الشعب العفريني نفسه في مناطق الشهباء التي عانت من التدمير، خاصة بعد الهجمات الإرهابية التي شهدتها المنطقة من قِبل تنظيم داعش، ورغم التحديات، نظمت العائلات العفرينية نفسها من جديد، وأثبتت قدرتها على المقاومة وإدارة شؤون حياتها في ظروف قاسية.
ومع استمرار العدوان التركي في قصف مناطق الشهباء، لاسيما في 2019 خلال مجزرة تل رفعت التي راح ضحيتها 8 أطفال، واصل الشعب العفريني تحديه للاحتلال، متمسكاً بحقه في العودة إلى أرضه، ورغم الحصار الذي فرضه النظام السوري السابق على مناطق الشهباء، لم تفلح أي من هذه المحاولات في إخضاع شعب عفرين، الذي أثبت صموده وإيمانه بالحرية والعدالة".
" لم يرضخ أبداً لاستسلام الاحتلال، بل ظل صامداً رغم كل المحن"
وأوضح المحامي جبرائيل مصطفى المعاناة والقمع الوحشي الذي تعرض له أهل عفرين خلال سنوات التهجير القسري، مضيفاً: "بالرغم من كل المعاناة والقمع الوحشي الذي تعرض له أهل عفرين خلال سنوات التهجير القسري في مناطق الشهباء، من حصارٍ وقصفٍ، إلا أن أهلنا في عفرين يتعرضون اليوم للمرة الثالثة لعملية تهجير قسري، حيث أجبروا على مغادرة أحياء الأشرفية والشيخ مقصود، وبحثوا عن ملاذٍ في عفرين، ثم في الشهباء، وصولاً إلى مناطق شمال وشرق سوريا، لتأتي جحافل مرتزقة الاحتلال التركي، الذين في غضون دقائق يرتكبون أبشع الجرائم بحق أهلنا المناضلين في مناطق الشهباء".
وأردف قائلاً: "إنهم يمارسون أقذر أنواع التعذيب بحقهم، ويفرضون المحاكم الميدانية التي لا تمت للعدالة بأي صلة، فما يجري، لا يليق بشعبٍ عظيم مثل شعب عفرين الذي قاوم قوى الاحتلال على مدى سنوات، والذي قدّم التضحيات الجسام في سبيل حريته وكرامته.
وإن هذه الممارسات لا تمثل سوى همجية الاحتلال، ولا تليق بأي شعب يسعى للعيش بسلام وكرامة، فشعب عفرين، الذي تحمل ضغوطات الاحتلال التركي منذ عام 2012، وواجه مضايقات النظام البعثي لأكثر من عقد من الزمان، لم يرضخ أبداً لاستسلام الاحتلال، بل ظل صامداً رغم كل المحن، ولقد أثبت شعب عفرين أنه لا يعرف معنى الاستسلام، وأن مقاومته ستظل مشتعلة حتى تحقيق العدالة والحرية".
وأكد المحامي مصطفى أن كافة الممارسات التي ارتكبها الاحتلال التركي ومرتزقته ترقى إلى جرائم حرب موصوفة، واستدرك قائلاً: "إن جميع الجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال التركي، من قصفٍ وتهجيرٍ وإبادة جماعية، إضافةً إلى الجرائم التي ارتكبها نظام البعث من فرض الحصار والمضايقات، تُعدّ جرائم حرب بكل المقاييس، ورغم أن دولة الاحتلال التركي تواصل جرائمها، إلا أنها تظل مصرّة على إبادة الشعب الكردي، وخاصة أبناء عفرين".
وحول ما آلت إليه الأمور بعد انهيار النظام البعثي وتسلم هيئة تحرير الشام لمقاليد السلطة في عدة محافظات من البلاد، قال المحامي جبرائيل مصطفى: "لقد سقط نظام البعث، وفرّ بشار الأسد، وظهرت حكومة تصريف الأعمال وهيئة تحرير الشام، التي سيطرت على عدة محافظات سورية، بينما عاد السوريون إلى ديارهم، لكن، لا يزال العفرينيون يتعرضون للظلم والقمع اليومي، ففي عفرين، تتواصل الانتهاكات بحق أهلها الأصليين، إذ تم إجبار العفرينيين على العودة إلى مدينتهم المحتلة، في وقت كانوا يأملون فيه أن يعودوا مرفوعي الرأس، ولكن للأسف، ونتيجة لتقاعس الجميع، عادوا إلى عفرين غير راضين، وهم منكسرون ومقهورون.
ولقد صدمنا في منطقة الشهباء حين دخل مرتزقة الاحتلال التركي بيننا بشكل مباشر، وأجبروا أهالي عفرين تحت تهديد السلاح والخطف على العودة إلى عفرين المحتلة، وبعد وصولهم، تم خطفهم، وتهديدهم، ومحاكمتهم ميدانياً دون أي محاكمات عادلة أو احترام لأبسط حقوق الإنسان".
وبخصوص هيئة تحرير الشام والجماعات السلفية، قال المحامي جبرائيل مصطفى: "إن هذه الجماعات السلفية لا تقبل الكرد، وينظرون إلى الكردي على أن ماله ونساءه وأطفاله وأراضيه جميعها متاحة لهم، فنحن أهالي عفرين لا نحارب الأتراك فقط، بل نحارب إيديولوجيتين خطيرتين: الإيديولوجية الشوفينية العنصرية للدولة التركية، والإيديولوجية السلفية الإخوانية".
"يجب أن تكون هناك شروط وبنود محددة للعودة الآمنة"
ونوّه المحامي والناشط الحقوقي، جبرائيل مصطفى إلى أنه لا يمكن الحديث عن عودة آمنة في ظل استمرار الاحتلال التركي، وتابع قائلاً: "إن وجود الاحتلال التركي في المنطقة قد أفضى إلى جرائم متعددة، إذ يترافق مع سيطرة كاملة وتوجه ذهني موحد يفضي إلى إبادة جماعية، كيف يمكن لأهالي عفرين العودة إلى مدينتهم بعد كل هذه السنوات وما تعرضوا له من ظروف قاسية؟ أصبح من المستبعد أن يصدق أهالي عفرين الشعارات المعلنة بعد كل ما مروا به، إنهم اليوم في حاجة ماسة إلى أفعال حقيقية، لا إلى وعود جوفاء.
ولقد كانت الآمال معلقة على تحرير عفرين، وفي مناطق الشهباء قدم أهلها العديد من الشهداء في صفوف قوات تحرير عفرين، الذين خاضوا عمليات عسكرية كانت تهدف إلى ضرب نقاط وجود الاحتلال التركي في عمق الأراضي المحتلة".
وفيما يخص العودة الآمنة لمهجّري عفرين، صرّح جبرائيل مصطفى قائلاً: "يجب أن تكون هناك شروط وبنود محددة للعودة الآمنة، مادام الاحتلال التركي قائماً في عفرين، فلا يمكن الحديث عن عودة آمنة، فوجود المرتزقة مثل العمشات و'تحرير الشام' يزيد من تعقيد الوضع، ولا يمكن ضمان العودة الآمنة في ظل هذه الظروف".
وأكد المحامي مصطفى أن العودة إلى عفرين بات أمراً مستحيلاً في ظل هذه الأوضاع القائمة، وقال بهذا الخصوص: "لقد سمعنا الكثير من الشعارات، خاصة من النظام البعثي الذي كان يطالب بعودة المهجّرين إلى ديارهم سابقاً قبل سقوطه، لكن ما تعرض له هؤلاء من قمع وخطف وتنكيل، لا يزال حاضراً في الذاكرة، فحتى أولئك الذين عادوا إلى عفرين قسراً أثناء عملية التهجير من الشهباء، وجدوا أنفسهم في مواجهة مع الخطف والتعذيب، مما يجعل العودة أمراً مستحيلاً في ظل هذه الأوضاع".
وتساءل الناشط الحقوقي جبرائيل مصطفى قائلاً: "هل ستكون العودة الآمنة بانتهاء الاحتلال التركي وإخراج المرتزقة؟ هل سيكون ذلك بإشراف من قِبل المنظمات الدولية ووجود قوات دولية تشرف على العودة الآمنة بشكل مباشر؟ وهل سيكون هناك دعم اقتصادي لإعادة بناء ما دمره الاحتلال التركي والمرتزقة التابعون له من تدمير وقطع الأشجار واستيلاء على المنازل؟ أم ستكون مجرد شعارات لعودة آمنة أو رجوع جسدي فقط؟ جميع هذه الأمور يجب أن تكون متوفرة لتحقيق العودة الآمنة".
وختم المحامي والناشط الحقوقي جبرائيل مصطفى حديثه بالقول: "إن مقاومة أهالي عفرين لم تكن مجرد صمود عسكري، بل كانت رسالة للعالم بأن الشعب العفريني، مثلما قاوم الاحتلال التركي، سيواصل نضاله من أجل الحرية والكرامة، وفي الوقت الذي يواصل فيه المجتمع الدولي صمته، يبقى الشعب العفريني عنواناً للمقاومة والصمود، ورمزاً للحرية أمام جبروت الاحتلال والتحديات المستمرة".